النهضة الألمانية.. قراءة في عوامل النجاح د. محمد صادق اسماعيل

0 1٬385

كانت الأمور تتقدم ببطء في المانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث بلغ معدل البطالة في عام 1950 نسبة 11.4. كما أدت الحرب الكورية إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وكان ميزان المدفوعات في حالة عجز كبيرة، ولكن إيرهارت والأحزاب الحكومية واصلوا اتباع الخطة الموضوعة والحفاظ على مسارها، وفي بداية 1951 بدأت تظهر بوادر النجاح حيث كان هناك فائض من التصدير، وفي 1952 ساهم الطلب القوي المتزايد من الخارج للبضائع الألمانية إلى حدوث فائض كبير في الميزان التجاري.

ولم تكن الجمهورية الاتحادية حتى عام 1955 في حاجة إلى جيش، كما أن الإمبراطورية الاستعمارية السابقة الألمانية كان من المقرر تصفيتها وهذا أدى بالتالي إلى أن الجمهورية الاتحادية عندها الآن عدد كبير من القوى العاملة المتحفزة المؤهلة والمدربة تدريبا عاليا. وعندما تم إعادة بناء محطات الإنتاج المدمرة تم ذلك على أحدث التقنيات وأعلى مستويات النمو. وأدت التطورات التي حدثت على الساحة العالمية إلى أن جمهورية ألمانيا أصبحت أولا شريكًا للقوى المنتصرة بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية ثم صارت حليفًا مهمًا لهم. استفادت ألمانيا في إعادة بنائها من خطة مارشال الأمريكية، ولم يساهم إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب فقط في وضع أساس الاتحاد الأوروبي اليوم، ولكن ساهم أيضًا استمرار القيود المفروضة على الإنتاج واختفاء الأوضاع  السياسية غير المستقرة.

وفي كل الإجراءات الاقتصادية المصاحبة لمسيرة الوحدة الأوروبية برزت ألمانيا كمستفيد، فهي المستفيد الأكبر من إطلاق اليورو عام 2002 ، وحتى خلال أزمة الديون السيادية المتفاقمة التي تعصف بمنطقة اليورو وتهدد بانهيارها، جنت ألمانيا مكاسب طائلة ناهزت 167 مليار يورو، ربحتها من أخذها قروضا من الأسواق المالية بفائدة منخفضة، وبيعها بعد ذلك بفائدة مرتفعة لدول اليورو المتعثرة. وكرس هذا الواقع الجديد ألمانيا كمتحكمة بالسياسة المالية والنقدية لمنطقة اليورو، وكمسيطرة من خلال الاقتصاد على أوروبا، وهو ما فشلت ألمانيا النازية في تحقيقه بالحديد والنار.

ويقود الاقتصاد الألماني أوروبا ويوجهها خاصة في زمن الأزمة حيث يحتل المركز الرابع عالميا من حيث الناتج المحلي الخام بعد كل من الولايات المتحدة والصين واليابان، كما يتمتع الألمان بقوة شرائية عالية المستوى ويميل المجتمع الألماني بطبعه إلى الادخار بنسب هي الأعلى عالميا تبلغ 35.11%.

ويعتمد الاقتصاد الألماني بالأساس على قطاع التصدير الذي يتمتع بميزة تنافسية عالية ويساهم بنسبة ٤٠% من الناتج الإجمالي المحلي. ولعل ما يجنيه الألمان من ثناء على أداء اقتصادهم ما هو إلا ثمرة لسلسلة من الإصلاحات في سوق العمل قامت بها حكومة المستشار السابق جيرهارد شرودر، وهي الإصلاحات التي قادت إلى استقرار في الأجور بل وانخفاضها منذ اعتماد العملة الموحدة. وقد أسهمت الإصلاحات الاجتماعية في جعل ألمانيا أحد أكثر مواقع الإنتاج في أوروبا فعالية من حيث التكلفة.

كما ساهمت الإجراءات الاستباقية التي قامت بها حكومة شرودر ضمن ما يعرف بأجندة 2010، بشكل فعال في جعل الاقتصاد الألماني بمأمن من الهزات التي ضربت اقتصادات الدول الكبرى كأميركا واليابان وبريطانيا، وهذه الإصلاحات الهيكلية والاجتماعية كرفع سن التقاعد مثلا كانت ألمانيا قد طبقتها بشكل طوعي في إطار إستراتيجية بعيدة النظر وهي نفس الإصلاحات التي اعتمدتها الدول المتعثرة مؤخرا إثر تفاقم أزمة اليورو.

وإضافة لهذا فإن الموهبة العالية للعمالة الألمانية وانخفاض تكاليف وحدة العمل ناهيك عن موقع البلاد المميز في وسط أوروبا، تمثل عوامل ساعدت بجعل ألمانيا رائدة في مجالات كثيرة، كما هو الحال في النقل والإمدادات وترشيد التوزيع بنجاح، وفي الوقت المحدد عبر طرق مختصرة، وذلك باستغلال البنية التحتية الممتازة للاتصالات وشبكات النقل الجيدة.

منذ اعتماد اليورو عملة موحدة والاقتصاد الألماني يسجل أرقاما قياسية الواحدة تلو الأخرى، وهذا ما يظهر جليا من خلال فوائض الميزان التجاري لهذا البلد، فاليورو يجنب الألمان كلفة التعاملات في منطقة اليورو، وهذا حافز إضافي لطلب مزيد من السلع الألمانية من قبل الزبائن الأوروبيين بل وحتى من الخارج، الشيء الذي جعل كلفة صرف اليورو التي تتمخض عن التعاملات التجارية تنخفض بنحو ٧% منذ بداية تقييم هذه العمليات باليورو.

واستطاعت ألمانيا بفضل الجودة والميزة التنافسية التي تتمتع بها سلعها مقاومة زحف الركود الذي اجتاح الدول المجاورة لها بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، وذلك بانتهاجها سياسة اقتصادية مرنة تستجيب لمتطلبات التطورات الاقتصادية مع اعتمادها على قطاع الإنتاج كنواة رئيسية، على عكس بريطانيا التي تخلت كليا عن الإنتاج لتركز على الخدمات وهذا ما جعلها عرضة للهزات المالية وما يتلوها من تداعيات سلبية على قطاع الخدمات.

 

إنها محاولة متواصلة للسعى نحو البحث عن دروس مستفادة من تجارب دولية لعل بعضها يصلح للتطبيق في مجتمعاتنا العربية التي ما زالت في مرحلة تحول من نظام سياسي إلى آخر، وما يزال البحث جاريا عن نموذج سياسي وإقتصادي يصلح للنظم السياسية العربية التي ضلت طريقها لسنوات طويلة ضائعة

د. محمد صادق اسماعيل

You might also like More from author

Leave A Reply

Your email address will not be published.